في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث، وتُثقل الضغوط كاهل النفوس، يبحث الإنسان عن ملاذٍ يطمئن فيه قلبه، وعن معنى يثبّت خطواته وسط هذا الضجيج المتواصل. نسمع كل يوم عن القلق، التوتر، الاكتئاب... عن حيرة في مواجهة الغيب، وانزعاج دائم من واقعٍ لا يسير كما نشتهي.
لكن... ماذا لو أخبرتك أن هناك سرًا من أسرار السعادة القلبية والطمأنينة النفسية لا يرتبط بما يحدث حولك، بل بكيفية نظرتك إليه؟
ذلك السر هو: الرضا بالقدر.
ليس الرضا بالقدر استسلامًا سلبيًّا، ولا انسحابًا من السعي، بل هو تسليم عاقل وواثق لحكمة الله، ويقينٌ بأن ما اختاره الله لك خيرٌ مما كنت تختاره لنفسك. هو حالة من السكون الداخلي لا يُمنح إلا لمن عرف الله حقًّا، وأيقن أن كل ما يجري في هذا الكون إنما هو بتقدير العليم الحكيم.
قال الله تعالى:
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾
[التغابن: 11]
قال العلماء في تفسيرها: هو الرجل تُصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلّم فيُهدى قلبه.
وفي الحديث الصحيح، قال رسول الله ﷺ:
"عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له"
[رواه مسلم]
فما أعجب أمر هذا الدين الذي يعلّمنا كيف نحول الألم إلى عبادة، والتوتر إلى طمأنينة، والمحن إلى منح!
الرضا بالقدر لا يعني ألا نحزن، أو ألا نتألم، بل يعني ألا ننهار. أن نضع الألم في موضعه الصحيح، ونتعامل مع الابتلاء على أنه جزء من الرحلة، لا نهاية العالم.
في هذه المقالة، سنغوص معًا في معنى الرضا بالقدر، كيف يزكّي النفس ويطهّر القلب، كيف يعيننا في زمن الفوضى والقلق، وما الوسائل التي تعين على بلوغه في واقعٍ لا يخلو من تقلبات.
سنستعرض نماذج من السيرة، ونعيش مع آيات وأحاديث تُضيء لنا الطريق نحو السكينة الحقيقية.
فهل أنت مستعد لتكتشف هذا الدواء الرباني الذي غفل عنه كثير من الناس؟
ما معنى الرضا بالقدر؟ وهل يعني التخلي عن الطموح؟
الرضا بالقدر مفهوم إيماني عميق، غالبًا ما يُساء فهمه. فبعض الناس يظن أن الرضا يعني الجمود، أو ترك السعي، أو قبول الظلم والضعف. لكن الحقيقة أن الرضا لا يعني أبدًا أن نتوقف عن الطموح أو الكفاح، بل يعني أن نطمئن لما قدّره الله لنا بعد أن بذلنا ما في وسعنا.
الرضا هو حالة قلبية راقية، يعيش فيها العبد متوازنًا بين العمل بالأسباب والتسليم للنتائج. هو أن تبذل جهدك، وتخطط، وتسعى، ثم تقول بقلبٍ مطمئن:
"اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد."
[رواه البخاري ومسلم]
إن الرضا لا ينفي الحزن أو الألم، لكنه يقي القلب من الاعتراض على الله. فالمؤمن قد يبكي، وقد يتألم، لكن قلبه لا يعترض، ولسانه لا يتذمّر، ونفسه لا تتبرم من قضاء الله.
تأمل قوله تعالى:
﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
[البقرة: 216]
الآية تُعلمنا أن مقاييس الخير والشر ليست دائمًا كما نراها، وأن ما نحبه قد يكون ضرًّا لنا، وما نكرهه قد يكون فيه الخير كله. وهنا يتجلى معنى الرضا: أن تثق بعلم الله أكثر مما تثق برغبتك.
وقد رُوي عن النبي ﷺ أنه قال:
"ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس."
[رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح]
فمن رضي بما قُسم له عاش غني النفس، مستريح البال، مهما كانت حاله في الدنيا. ومن عاش ساخطًا متبرمًا، فلن تكفيه الدنيا ولو امتلكها كلها.
والأخطر من ذلك، أن عدم الرضا قد يقود الإنسان إلى الاعتراض القلبي على أقدار الله، وهو باب خطر يجر إلى التسخط وسوء الظن برب العالمين، نسأل الله السلامة.
وقد بيّن النبي ﷺ أن للرضا ثمرة عظيمة في الآخرة، فقال:
"إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط."
[رواه الترمذي وقال: حسن]
أي أن الجزاء في الآخرة سيكون من جنس الشعور الذي عاشه العبد في الدنيا: فإن رضي وقت البلاء، فله رضا الله يوم اللقاء، وإن سخط، فهو في خطر السخط الإلهي.
الرضا والطمأنينة النفسية… كيف يسكب اليقين سكينة في القلب؟
كل إنسان يبحث عن السكينة… تلك اللحظة التي يسكن فيها الضجيج الداخلي، ويهدأ فيها الصراع بين ما نتمناه وما يحدث بالفعل.
ولعلّنا في هذا العصر ـ عصر السرعة والمقارنات والأزمات المتلاحقة ـ صرنا أشدّ حاجةً لهذه السكينة من أي وقت مضى. لكن من أين تأتي؟ كيف نجد هذا الهدوء القلبي الذي لا تهزّه الأحداث، ولا تنزعه الفواجع؟
الجواب يبدأ من الداخل… من مكان اسمه: الرضا.
الرضا بالقدر لا يعني غياب الأحزان، بل يعني أن نعيشها دون أن تُفسد قلوبنا، ودون أن تهزم إيماننا.
هو أن تنكسر، لكن تظل مطمئنًا أن الله هو الجابر.
أن تتألم، لكن تعلم أن الألم لم يأتِ عبثًا.
أن تُؤخر، لكن توقن أن الله لم ينسك، بل يؤهلك لما هو أعظم.
تأمل في قول الله تعالى:
﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾
[التوبة: 51]
"كتب الله لنا" وليس "علينا"، إشارة بديعة إلى أن كل ما يصيبنا هو في صالحنا، وإن خالف رغبتنا أو تجاوز فهمنا.
فالقدر لا يقع "علينا" كعبء، بل "لنا" كنعمة، حتى لو لبس ثوب البلاء.
ولذلك، فإن الرضا ليس مجرد حالة شعورية مؤقتة، بل هو نتيجة لليقين، وثمرة من ثمار الإيمان الحقيقي. فكلما ازداد يقين العبد بحكمة الله، زاد سكون قلبه واطمأن.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ قال:
"إن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه."
[رواه أحمد وحسّنه الألباني]
انظر كيف جعل الرضا درجة أعلى من الصبر:
– الصبر يجتذبك إلى الله،
– أما الرضا... فيصطفيك الله به ويقرّبك.
ويكفيك أن تتأمل قول رسول الله ﷺ:
"من قال حين يُصبح وحين يُمسي: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا، كان حقًّا على الله أن يُرضيه يوم القيامة."
[رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني]
فالله تعالى يُجازي عبده يوم القيامة برضاه الكامل… إذا ما رضي عنه في الدنيا!
وهنا ندرك أن الرضا ليس فقط دواء نفسيًا في وقت الأزمة، بل هو عبادة قلبية راقية ترفع العبد في مقامات الإيمان.
فكلما كان قلبك أقرب إلى التسليم، كنت أهدأ في التقلبات، وأثبت حين يتزلزل من حولك.
الرضا لا يعني أن تتوقف عن السعي، ولا أن تعيش بلا مشاعر، بل أن تعرف من أين تأتي الطمأنينة الحقيقية: من الله، لا من الظروف.
فكم من إنسان نال ما أراد، لكنه ظلّ قلقًا متوترًا؛ وكم من محرومٍ ظاهريًا، يعيش في قلبه جنة من الطمأنينة لأنه رضي بقسمة الله، وأيقن أن المنع قد يكون في ذاته عين العطاء.
وقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
"في الرضا سرور القلب، وطيب العيش، والرضا يُفرغ القلب لله، ويقطع عنه كل شاغل."
فمن ذاق الرضا، ذاق الجمال الخفي في البلاء، ووجد الراحة التي لا تُشترى، ولا تُقاس بما في اليد من مال أو منصب.
فهل بعد هذا كله، لا نشتاق لنعمة الرضا؟
كيف يُزكّي الرضا النفس ويطهّر القلب؟
الرضا ليس مجرد حالة قلبية طارئة، بل هو من أعمال القلوب التي تُزكّي النفس، وتطهّرها من عللها الداخلية. فالإنسان بطبعه يجزع عند المصيبة، ويتسخط عند التأخير، ويقلق إذا خالفت الأمور توقعاته… وهنا يأتي الرضا كعلاج ناعم وعميق، يعيد للنفس توازنها، وللقلب صفاءه.
1. تهذيب النفس من الجزع والتسخط
الرضا يُعلّم النفس كيف تواجه البلاء دون صراخٍ داخلي، كيف تتحمّل الألم دون أن تتمرد على قَدَرِها. هو تهذيبٌ لردّة الفعل، وصقلٌ للاستجابة القلبية.
قال تعالى:
﴿وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوٓا۟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ﴾
[البقرة: 155-156]
هذه ليست فقط كلمات تُقال، بل موقف داخلي: أن ترى كل ما تفقده في الدنيا على أنه وديعة عند الله، وأن قلبك لا يملك شيئًا إلا أنه ملكٌ لله، فله أن يأخذ كما له أن يعطي.
ولذلك قال رسول الله ﷺ:
"إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط."
[رواه الترمذي وحسنه الألباني]
2. تربية النفس على التوكل واليقين
الرضا ليس انفعالًا سلبيًا، بل هو ثمرة من ثمار التوكل الحقيقي، والتسليم لحكمة الله. حين يُربى الإنسان نفسه على الرضا، يتعلم كيف يسير في الحياة متوكلًا، لا مرعوبًا من المستقبل، ولا نادمًا على الماضي، لأن قلبه يوقن أن كل ما مضى، وكل ما سيأتي، تحت عين الله.
قال تعالى:
﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتَـٰبٍۢ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ ﴿٢٢﴾ لِّكَيْلَا تَأْسَوْا۟ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا۟ بِمَآ ءَاتَىٰكُمْ﴾
[الحديد: 22-23]
الرضا هنا يُعلّم النفس أن لا تتعلق بالمظاهر، ولا تنهار عند أول عثرة، لأنها تعيش بإيمان أن الأمور مكتوبة قبل أن تُخلق.
3. دور الرضا في بناء شخصية متزنة، قوية، متفائلة
من يعيش الرضا، يعيش بثبات داخلي لا تهزّه الهزائم المؤقتة، ولا تبهجه المكاسب السطحية، لأنه لا يقيس نفسه بمقاييس الدنيا، بل بما يرضي الله.
شخصية الراضي ليست شخصية منهزمة أو خاضعة، بل هي شخصية واثقة، مطمئنة، تعرف أن السعي واجب، وأن النتيجة بيد الله، فإذا جاءت خيرا حمد، وإن تأخرت خيرا سكن، وإن خالفت هواه قال: “ربما كان المنع حماية، وربما كان التأخير تربية.”
وقد قال بعض السلف:
"من رضي بقضاء الله، أرضاه الله، وكفاه، وبارك له في دنياه وأخراه."
فالرضا يصنع إنسانًا نقي القلب، متزن النفس، لا تحرقه نار المقارنات، ولا تأكله هموم التوقعات، بل يعيش في سلامٍ عميق مع نفسه ومع ربه.
مظاهر ضعف الرضا في واقعنا المعاصر
رغم أن الرضا كان سمة راسخة في قلوب السلف، إلا أن واقعنا المعاصر يشهد حالة نزيف داخلي صامت في القلوب…
قلوب تعيش التوتر، وتُرهقها المقارنات، وتُضعفها المطاردة المستمرة لما لا تملكه، وتنهكها فكرة أنها "تستحق أكثر دائمًا".
فلنتأمل بعضًا من مظاهر ضعف الرضا التي أصبحت تغزو حياتنا اليومية:
1. القلق من المستقبل، والتعلق المفرط بالماديات
في عصر تكثر فيه المتغيرات، ويُربّى الإنسان منذ صغره على "التخطيط للمستقبل"، يتحول الأمر من سعي محمود إلى قلق مرضي.
قلقٌ يجعل الإنسان غير قادر على الاستمتاع بالحاضر، لأنه خائف دومًا مما لم يأتِ بعد.
قال الله تعالى:
﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَاۚ هُوَ مَوْلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ﴾
[التوبة: 51]
الآية تقدم دواء القلق في كلمات معدودة:
كل ما سيحدث لك، قد كُتب لك… فاطمئن. الله هو مولاك.
والتوكل الحقيقي لا يتعارض مع التخطيط، لكنه يحررك من عبودية القلق.
أما التعلق بالماديات، فقد أضعف القلوب عن استقبال البلاء أو التأخر أو الفقد… لأن القلوب أصبحت مشدودة للنتائج، لا للمعنى.
قال ﷺ:
"من كانت الدنيا همَّه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له."
[رواه ابن ماجه وصححه الألباني]
2. اللهث خلف الكمال وتعاسة المقارنات على مواقع التواصل
وسائل التواصل الاجتماعي خلقت بيئة مشوهة للرضا، حيث يرى الإنسان "اللحظات المختارة" من حياة الآخرين، فيقارنها بكامل حياته.
فينشأ وهم: "الجميع أفضل مني"... "أنا متأخر"... "ينقصني الكثير".
وهكذا يتحول الرضا إلى شعور بالهزيمة، بدلًا من أن يكون طمأنينة.
قارن هذا بوصف النبي ﷺ للدواء الحقيقي:
"انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم."
[رواه مسلم]
لكن الواقع اليوم عكس الحديث تمامًا… نحن نفتح أعيننا كل يوم على من هو فوقنا، ولا نرى من هو دوننا إلا نادرًا، فتضعف نعمة القناعة، ويزداد لهاث النفس.
3. ثقافة "أنا أستحق الأفضل"... وتمردها على مفهوم القدر
إحدى أخطر الأفكار التي تُزرع في الجيل الحالي هي:
"طالما اجتهدت، فأنا أستحق النتائج التي أريدها."
لكن الحقيقة أن الإنسان يسعى، والله يختار.
وما نراه "أفضل" قد لا يكون كذلك في علم الله.
قال تعالى:
﴿وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا۟ شَيْـًۭٔا وَهُوَ خَيْرٌۭ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّوا۟ شَيْـًۭٔا وَهُوَ شَرٌّۭ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
[البقرة: 216]
الرضا لا يعني أن لا تحلم، بل أن تحلم وأنت مستعد لأن يقودك الله إلى خيرٍ آخر غير الذي تخيلته.
الفرق كبير بين من يسير ومعه قناعة: "الله يختار لي"، ومن يسير وهو يقول: "إما ما أريد، أو أنا مظلوم".
لهذا، فثقافة "أنا أستحق الأفضل" إذا لم تُضبط بإيمانٍ بالقدر، تتحول إلى مصدر دائم للغضب، والاحتقان، والإحباط.
وهكذا… حين يُضعف الرضا في القلوب، تصبح الحياة مرهقة، مهما كثرت النعم…
أما حين يسكن الرضا في القلب، فالقليل يكفي، والتأخير يُحتمل، والخسارة لا تكسرك، لأنك تؤمن أن الله لا يُدبّر لك إلا ما هو خير، وإن لم تفهمه الآن.
خطوات عملية للوصول إلى الرضا
الرضا ليس شعورًا يأتي عابرًا، ولا حالة تُولد مع الإنسان؛ بل هو ثمرة مجاهدة وتربية إيمانية طويلة النفس.
ولأن القلب بطبعه يتقلب، ويضيق عند المصائب، ويتوق لما لا يملكه… فلا بد له من خطوات تهذيبية تقوّي عضلة الرضا، وتمنحه سكينة وثباتًا.
فيما يلي أربع خطوات عملية ومجربة تُعين القلب على بلوغ هذه المنزلة العالية:
1. تعميق الإيمان بحكمة الله وعدله
أصل الرضا أن توقن: ما من شيء في حياتك إلا وهو نابع من علم الله، محاط بحكمته، نازل بعدله.
وما ظنّك بربّ كريم، رحيم، أعلم بك من نفسك؟
فهو يُدبّر أمورك لما فيه خير، وإن غاب عنك وجه هذا الخير؟
قال الله تعالى:
﴿وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَرًۭا مَّقْدُورًۭا﴾
[الأحزاب: 38]
وقال:
﴿ٱللَّهُ لَطِيفٌۭ بِعِبَادِهِ﴾
[الشورى: 19]
كلما ازداد إيمانك بلطفه، زاد يقينك أن ما فاتك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك.
2. الدعاء والذكر كأدوات تهذيب وتطمين
القلب البشري يحتاج إلى "صيانة مستمرة"، وأعظم وسيلة لذلك هي الذكر والدعاء.
فالذكر يُطفئ نيران التذمر، ويُعيد القلب إلى مركز الطمأنينة، والدعاء يُربي فيك التعلق بالله لا بالنتائج.
وقد كان من دعاء النبي ﷺ:
"اللهم رضِّني بما قضيت، وبارك لي فيما أعطيت."
[رواه الترمذي وحسنه الألباني]
وكان يقول أيضًا:
"أسألك نفسًا مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك."
[رواه النسائي وصححه الألباني]
فلا تستخف بأثر لحظة صادقة تقول فيها: "يا رب، أرضني، وإن لم أفهم."
3. تربية النفس على قول: "الحمد لله على كل حال"
قد يبدو هذا القول بسيطًا، لكن فيه تربية عميقة للقلب.
فأنت لا تحمد لأنك فهمت كل شيء، بل لأنك تثق في الله، وتحمده لأنه لم يقدّر لك إلا الخير.
قال ﷺ:
"عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له."
[رواه مسلم]
اجعل "الحمد لله" على لسانك لا حين تُعطى فقط، بل حين تُمنع…
لا حين تُبشَّر فقط، بل حين تُبتلى.
4. النظر في النعم وعدم حصر التفكير في المفقود
من أعظم ما يُضعف الرضا: التركيز على ما ليس لديك، وغفلتك عن نعم عظيمة أصبحت "معتادة" في عينيك.
لكن النعم لا تُدرك بوفرتها، بل بشكرها.
تفكر في سمعك، بصرك، بيتك، من تحب، حتى قدرتك على الدعاء… أليست كلها نِعَمًا عظيمة؟
قال الله تعالى:
﴿وَإِن تَعُدُّوا۟ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآۗ إِنَّ ٱلْإِنسَـٰنَ لَظَلُومٌۭ كَفَّارٌۭ﴾
[إبراهيم: 34]
انظر لما لديك، لا لما ينقصك… عندها سيهدأ القلب، ويمتلأ القلب بالرضا.
إن طريق الرضا يبدأ بخطوة: أن تُصدق أن الله لا يُقدر لعبده إلا خيرًا، وإن تألم القلب.
وما دام القلب حيًا بالإيمان، ساعيًا بالدعاء، شاكرًا في كل حال…
فهو على الطريق.
قصص واقعية وأمثلة ملهمة: حين يتحوّل الابتلاء إلى منحة
الحديث عن الرضا لا يكتمل دون الوقوف عند نماذج حية، غيّر فيها الرضا حياة أصحابها، فصار البلاء هدية، والمحنة بابًا إلى السكينة.
إن النفوس تتعلّم أحيانًا من القصص أكثر مما تتعلّم من النصوص، لأن القصة تترجم المفهوم إلى مشهدٍ واقعي، وتجعل الفكرة قابلة للّمس والتأمل.
فيما يلي ثلاث قصص، من السيرة ومن الواقع، تمثّل كيف يمكن للرضا أن يكون ضوءًا في أحلك الظروف:
1. عروة بن الزبير… حين بُترت رجله ومات ابنه في يومٍ واحد
كان عروة بن الزبير من كبار التابعين، وقد أصيب بمرض خبيث في ساقه، فقرر الأطباء بترها.
وفي نفس اليوم الذي بُترت فيه رجله، توفي أحد أبنائه السبعة.
فجمع عروة الناس وقال لهم:
"اللهم لك الحمد، كانوا لي سبعة فأخذت واحدًا وأبقيت ستة، وكان لي أربعة أطراف، فأخذت واحدًا وأبقيت ثلاثة، ولئن كنت قد أخذت فقد أبقيت، ولئن كنت قد ابتليت فقد عافيت، فلك الحمد على ما أخذت، ولك الحمد على ما أبقيت."
أرأيت كيف يُحوّل الإيمان والرضا المصيبة إلى لحظة شكر؟ وكيف ترى الروح الراضية الجزء المملوء من الكأس، لا الفارغ فقط؟
2. أم سلمة بعد وفاة زوجها… والرضا الذي جلب لها رسول الله ﷺ
حين تُوفي زوجها أبو سلمة، حزنت أم سلمة حزنًا شديدًا، وكانت تحبه حبًا عظيمًا.
فقال لها النبي ﷺ:
"قولي: اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها."
فترددت وقالت في نفسها: "ومن خير من أبي سلمة؟"
لكنها مع ذلك قالت الدعاء، ورضيت بقضاء الله، فإذا بها تُرزق بأعظم ما كانت تتخيل…
فكان من نصيبها الزواج من رسول الله ﷺ.
الرضا لا يُذهب الأحزان فقط، بل يُمهّد الطريق لعطاء أعظم، ربما لا يخطر لك على بال.
3. شابة ضريرة… لكنها أسعد من كثير من المبصرين
قال أحد الدعاة: زرتُ فتاة ضريرة منذ ولادتها، وحين جلست معها، لم أجد عندها شكوى ولا تذمّرًا، بل كانت تتكلم بثقة، وتبتسم، وتقول لي:
"أنا راضية تمامًا، وأشعر أن الله أحبّني عندما حرمني من البصر، لأنني أراه بقلبٍ أكثر صفاءً من كثير من الناس."
وسألتها: "ألا تتمنين أن تبصري؟"
فقالت: "بلى… في الجنة إن شاء الله."
ذلك هو الرضا الحقيقي… أن لا يكون معناه إنكار الألم، بل ترويض النفس على الثقة، والتسليم، وانتظار الخير من ربّ الخير.
هذه القصص تُعلّمنا أن الرضا لا يعني غياب الألم، بل هو القدرة على النظر إلى الألم بعين اليقين، والثقة أن بعده لطفًا وخيرًا لا يُقدّر.
ختام تأملي
الرضا ليس استسلامًا سلبيًا، ولا ضعفًا في الطموح…
بل هو قوة داخلية هادئة، لا يفهمها إلا من ذاق طعمها.
الرضا هو أن تطمئن في قلبك، حتى وإن اضطربت الظروف حولك.
أن ترى نور الحكمة في ظلمة البلاء، وتثق أن ما اختاره الله لك، خيرٌ مما كنت ستختاره لنفسك.
حين يرضى القلب، تتغير زاوية الرؤية:
فلا يعود يرى في البلاء عذابًا، بل بابًا للترقية.
ولا في الفقد حرمانًا، بل مساحة لاستقبال أوسع.
الرضا لا يُلغِي الألم، لكنه يُخفّف حدّته، ويُلبسه ثوب المعنى.
فإذا بالقلب ينطق في كل حال:
"الحمد لله… على ما كان، وعلى ما لم يكن، وعلى ما سيكون."