أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

كيف يغريك شيطان الحسد بالمعاصي... وكيف تتغلب عليه؟

كيف يغريك شيطان الحسد بالمعاصي


إنَّ شيطان الحسد حين يتمكّن من الجسد، لا يرضى أن يكون مجرد سببٍ في ألمٍ عابر أو تعبٍ جسديٍّ محدود، بل يطمع في ما هو أخطر وأعمق: أن يُبعد العبد عن ربّه، وأن يجعل المعصية طريقه إلى التمكن الكامل من الجسد والنفس والروح.

فهو يدخل إلى بدن الإنسان خفيةً، كما يتسلّل الدخان في ثقبٍ ضيّق، حتى يجد لنفسه مقامًا في أعماقه. وهناك يبدأ معركته الصامتة، حربًا لا تُرى بالعين المجردة، لكن آثارها تظهر في كل ما يشعر به الممسوس من اضطرابٍ داخلي، وضعفٍ في الإرادة، وثقلٍ في الطاعة، ونفورٍ من الخير، واشتياقٍ غريبٍ نحو المعصية.

يهمس له في الخفاء، ويُكرّر الوسوسة حتى تصبح الفكرة مألوفة في ذهنه، ثم يُزيّنها له حتى يراها رغبة طبيعية لا خطر فيها. لا يتعجل إسقاطه، بل ينسج حوله خيوطًا من الإغراء والتبرير، حتى يظن أن الحرام سيمنحه راحة أو تفريغًا أو نسيانًا للألم الذي يعانيه.

هذا الشيطان لا يضرب الجسد ضربًا ظاهرًا، بل يضرب القلب أولًا، لأنه يعلم أن القلب إذا ضعف، ضعف الجسد كله. قال رسول الله ﷺ:

«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»
(رواه البخاري ومسلم)

فإذا فسد القلب بالذنوب والهوى، وجد الشيطان طريقًا ممهدًا في البدن، يتحرك فيه كما يشاء، كما قال النبي ﷺ:

«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»
(رواه البخاري ومسلم)

إنه يجري في العروق، لكن هدفه ليس الجسد في ذاته، بل الروح التي تُنير هذا الجسد. فهو يعرف أن المؤمن إذا ضعف في قلبه، أصبح جسده بلا حراسة، وروحه بلا درع، فيدخل ويُحارب من الداخل، يوسوس في الصلاة، ويُثقل الطاعة، ويُغري بالمعصية، حتى يرى المريض نفسه أسيرًا لا يملك إلا الاستسلام.
وفي كل مرة يستجيب فيها العبد لتلك الوساوس، يزداد الشيطان قوةً عليه، ويتعمّق تمكّنه من الجسد. المعصية بالنسبة له ليست خطيئة فقط، بل بابُ تغذيةٍ وتمكين.
فكل نظرةٍ محرّمة، أو فعلٍ آثم، أو فكرٍ فاسد، هو بمثابة طاقة جديدة يتغذى بها، فيقوى على الجسد، ويتجدد حضوره في أعضائه.
وحين يشعر الممسوس بتأنيب الضمير بعد المعصية، يُسارع الشيطان إلى ضربه من جهةٍ أخرى، فيبثّ في نفسه اليأس من التوبة، ويقول له في همسه الخفي: “لقد أذنبت كثيرًا، لن يُقبل منك بعد الآن.”
فكيف يغريك شيطان الحسد بالمعاصي... وكيف تتغلب عليه؟

أولًا: كيف يُغريك شيطان الحسد بالمعصية؟
1. بالوسوسة المتكررة وإثارة الشهوة

يبدأ شيطان الحسد عمله في جسد الإنسان بالوسوسة الخفية، فيُلقي في فكر الممسوس خواطر مظلمة، يدعوه فيها — بخبثٍ ولين — إلى ما يُغضب الله عز وجل، خصوصًا ما يتعلّق بالشهوات والمعاصي الخفية.
فيُحرّك داخله رغبة غامضة للنظر المحرَّم، أو يدفعه إلى ممارسة العادة السرية، أو يزيّن له طريق الفاحشة، حتى يُصبح ما كان يستنكره يومًا أمرًا “طبيعيًا” لا يجد فيه حرجًا.

ولا يكتفي بالهمس لمرةٍ واحدة، بل يكرّر وساوسه في فترات متقاربة، حتى تتغلغل الفكرة في عمق النفس، فتتحوّل من “وسوسة غريبة” إلى “رغبة داخلية”. وهنا تبدأ خطورته الكبرى، إذ يغلف الحرام بثوب الحاجة، ويُقنع المريض أن ما يفعله هو مجرد تفريغٍ طبيعيٍّ أو بحثٍ عن راحة مؤقتة.

لكنه في الحقيقة لا يريد له الراحة، بل يريد له السقوط. فهو يأمر بالفاحشة لا ليُسعدك، بل ليكسر روحك ويُضعف صلتك بربك، ويُطفئ فيك نور التوبة والإيمان. كلما استجبت له، وجد فيك مدخلاً أوسع، حتى يعتاد الجسد معصيته، وتخمد روح الطاعة شيئًا فشيئًا.

قال تعالى:

﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ﴾
(البقرة: 268)

فهو يأمرك بالفاحشة لا ليمنحك لذّة، بل ليجعلها قيدًا في عنقك، ويُبعدك عن الله تعالى، حتى تضعف مقاومتك، فيتمكّن أكثر من جسدك ونفسك.

2. بجعل المعصية وسيلة للراحة

حين يشتدّ على الإنسان الألم مع هذا المس الخبيث وهذا العدو الذي يسكن بدنه، سواء الألم في جسده أوضيق في قلبه، وتكثر عليه الوساوس والهموم، يتسلّل الشيطان بخبثٍ إلى داخله، ليقنعه بأن طريق الخلاص هو في ارتكاب المعصية. يزيّن له الباطل في صورة راحة، ويهمس في أذنه: "افعلها، ستنسى تعبك، وستشعر بالراحة". ولكنها راحة كاذبة، لحظة زائفة لا تلبث أن تنقلب إلى ندمٍ عميق، وحزنٍ يثقل القلب، وضعفٍ يزداد به الإنسان خضوعًا لعدوه.

فالشيطان لا يقدّم راحةً حقيقية، بل يجرّ الإنسان شيئًا فشيئًا إلى دائرة من الوهم والاضطراب، ليزداد تعلقًا بالمعصية كلما اشتدّ عليه الضيق، حتى تصبح المعصية ملجأً كاذبًا يهرب إليه من ألمه، وهي في الحقيقة مصدر ألمه الأكبر.

وقد أخبر الله تعالى عن مكر الشيطان حين قال:
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ (إبراهيم: 22)

فهو يَعِدُ بالراحة وهو يعلم أنها لن تأتي، ويُمنّي النفس بالسعادة وهو يريد لها الشقاء. إنّ غايته ليست سوى أن يُعمّق سلطانه على الجسد والروح، فيُضعف الإيمان، ويُرهق القلب، ويُبقي صاحبه في دوامةٍ من الضعف والتعب لا تنتهي إلا بالرجوع الصادق إلى الله.

3. بإضعاف الإرادة والإيمان

كلما استسلم الإنسان الممسوس لوساوس الشيطان ونداءاته الخفية، ازداد ضعفًا من حيث لا يشعر، لأن كل استجابة لتلك الوساوس تُطفئ في قلبه نور الإيمان شيئًا فشيئًا، وتُثقل عليه الطاعات التي كانت يومًا سهلة على نفسه. فالمعصية ليست مجرد خطأ عابر، بل هي بابٌ مظلم يُفتح للشيطان ليجد طريقه إلى أعماق القلب والروح، فيتمكن أكثر من التأثير في الجسد والنفس والعقل.

وقد حذّرنا النبي ﷺ من هذا التسلّط حين قال:
«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»
(رواه البخاري ومسلم)

فإذا ارتكب العبد معصية، تمدّد الشيطان في جسده كما يجري الدم في عروقه، فيتغلغل في أعماقه ويصبح أكثر قدرة على بثّ الكسل، والقلق، والتشويش في فكره وإرادته. ومع تكرار الاستجابة له، تضعف مقاومة القلب، وتُصبح النفس أكثر قابلية للانقياد، حتى يفقد العبد شيئًا فشيئًا لذّة العبادة، وخشوع الصلاة، وصفاء الذكر.

وهكذا يبدأ التراجع الروحي تدريجيًا: خطوة بعد خطوة، حتى يجد الإنسان نفسه بعيدًا عن الطاعة، مثقلًا بالهمّ، فاقدًا لعزيمته، وقد صار الشيطان يتحكم في مشاعره وتصرّفاته. ولا يُنقذ العبد من هذا الانحدار إلا يقظة الإيمان، وصدق التوبة، وعودة حقيقية إلى الله، يُغلق بها كل بابٍ فتحه للشيطان في قلبه وجسده.

4. بإلقاء الشعور باليأس بعد الذنب

من أخطر مراحل مكر شيطان الحسد وأخبثها، أن يُوقع العبد في الذنب، ثم لا يكتفي بذلك، بل يبدأ بخطوةٍ أشدّ فتكًا، وهي أن يُلقي في قلبه شعورًا باليأس، فيهمس له بخبثٍ: "لقد أذنبت كثيرًا، لن تُقبل توبتك، لقد أصبحت فاسدًا لا أمل فيك." فيغدو العبد بين نارين: نار الذنب ونار اليأس، فيتوقف عن التوبة، ويبتعد عن الطاعة، ويغلق باب الرجاء الذي هو سرّ الحياة الإيمانية.

وهذا المكر أخطر من المعصية نفسها، لأن المعصية قد تُتبع بتوبة، أما اليأس فيقطع الطريق على التوبة، ويجعل العبد يعيش في ظلمةٍ من الشعور بالعجز والذنب، فيُصبح فريسةً سهلة للشيطان. وقد حذّر الله تعالى من هذا اليأس في كتابه الكريم فقال:
﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: 87)

فالشيطان يعلم أن من تمسّك برجاء رحمة الله نجا، لذلك يسعى ليزرع فيك فكرة أن الله لن يغفر لك، بينما الحقيقة أن رحمة الله أوسع من كل ذنب.

قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح:
«للهُ أفرحُ بتوبةِ عبدهِ من أحدكم سقط على بعيرهِ وقد أضلَّه في أرضٍ فلاة»
(رواه البخاري ومسلم)

وفي حديث آخر عظيم يُظهر سعة مغفرة الله:
«قال اللهُ تعالى: يا ابنَ آدمَ، إنَّك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كانَ منك ولا أُبالي»
(رواه الترمذي)

فهذه الأحاديث تذكّر المؤمن أن باب التوبة مفتوح مهما عظمت الذنوب، وأن الله لا يملّ من مغفرة عباده ما داموا يرجعون إليه.

إن الشيطان يريد أن يجعلك منقطعًا عن الله، فاقد الأمل، ليُتمّ سيطرته الكاملة عليك، أما الله تعالى فيدعوك في كل لحظة إلى الرجوع، ويقول: “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله.” فعد إليه، فمهما ابتعدت، فإن رحمته أقرب إليك من وساوس عدوّك.

شاهد الفيديو لنفس الموضوع في هذا الرابط وتابع القناة ليصلك كل جديد عن هذا الموضوع




ثانيًا: كيف تتغلب على شيطان الحسد؟

1. بالمداومة على الطاعة والذكر

من أعظم الأسلحة التي يملكها المؤمن في مواجهة الشيطان وأذاه هي المداومة على الطاعة والذكر. فكل ذكرٍ لله تعالى يُشعل نارًا تحرق هذا العدو الذي يسكن الجسد ويُضعف أثره، وكل صلاةٍ يُقيمها العبد تُضيّق عليه المسالك التي يجري فيها، حتى لا يجد لنفسه مستقرًّا في الجسد ولا في القلب.

فالذكر حياة للروح، ونور للقلب، وحصنٌ منيع لا يستطيع الشيطان اختراقه. قال الله تعالى:
 ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾
(الأعراف: 201)

فالمؤمن إذا هاجمته الوساوس أو ثقلت عليه الهموم، سرعان ما يتذكّر الله، فينقشع عنه ما كان من ظلمةٍ ووهم، لأن النور لا يجتمع مع الظلام، وذكر الله لا يجتمع مع وساوس الشيطان.

وقال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم):

«إن الشيطان يفرّ من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة»
(رواه مسلم)

فإذا كان الشيطان يهرب من البيت الذي يُتلى فيه القرآن، فكيف بمن يجعل القرآن والذكر جريانًا دائمًا على لسانه وقلبه كل يوم؟

وقال أيضًا (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الصحيح:

 «مثل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه مثل الحي والميت»
(رواه البخاري)

فالذاكر لله حيٌّ بروحه، مطمئنٌّ بقلبه، محفوظٌ من وساوس عدوه، أما الغافل فهو كالميت وإن تحرك جسده، لأن قلبه خالٍ من الحياة التي يُحييها الذكر.

الذكر سلاحٌ لا يُرى، لكنه أقوى من كل سلاحٍ محسوس، فهو يطرد الشيطان من الجسد، ويُضعف وساوسه، ويُطهّر النفس من أثره حتى يضمحلّ ويذوب، لأن الشيطان لا يقوى على قلبٍ عامرٍ بذكر الله. ومن داوم على الطاعة والذكر صار محفوظًا برعاية الله، مطمئنًّا في بدنه وروحه، فيسكنه النور بدل الظلمة، والسكينة بدل الاضطراب.

2. بترك المعصية مهما ضعفت

قد تمرّ على الإنسان لحظات ضعفٍ شديدة، يشعر فيها أن جسده مثقل، وأن الوساوس تضغط عليه بقوة حتى يكاد ينهار، فيتسلّل الشيطان إليه محاولًا إقناعه أن المعصية ستُخفّف عنه أو تُريحه من ذلك الصراع الداخلي. لكن في تلك اللحظات تحديدًا، تظهر قوة المؤمن الحقيقية؛ حين يختار أن يقاوم، أن يقول "لا" رغم الألم، وأن يصبر في وجه الإغراء والضعف.

فلا تُرضِ عدوك بمعصية، لأنك حين تفعل، فإنك لا تُضعف وساوسه، بل تُطعمه قوةً جديدة. إن المعصية بالنسبة له غذاءٌ يزيده تمكّنًا في الجسد، أما الطاعة فهي سُمّه الذي ينهكه ويُضعف سلطانه حتى يزول أثره. ولهذا، كلما قاومت، كلما انكسر الشيطان داخلك وفقد قدرته على السيطرة.

قال الله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾
(الأعراف: 201)

فالتقوى ليست أن تكون قويًّا دائمًا، بل أن تتذكّر الله في لحظة ضعفك، وأن تختار الصواب حين يكون الخطأ أسهل. فحين يهاجمك الشيطان بوساوسه، وتذكُر الله، ينهار في داخلك ويُكسر سلطانه، لأن ذكر الله نورٌ لا يستطيع الظلام مقاومته.

واعلم أن لحظة الصبر تلك قد تكون مفتاح نجاتك، وأن مقاومة معصيةٍ صغيرة قد تُغلق بابًا كبيرًا من أبواب الشر، وأن كل مرة تُجاهد فيها نفسك، يرفعك الله بها درجة في الإيمان، ويضعف فيها عدوك أكثر. فالثبات أمام المعصية ليس مجرد صراع داخلي، بل هو نصرٌ خفي، يراه الله ويكتبه لك في صحائف المجاهدين بحق.

3. بكثرة التوبة والاستغفار

من أقوى الأسلحة التي تُضعف الشيطان وتُبطل مكره كثرة التوبة والاستغفار. فمهما أوقعك هذا العدو في الذنب، لا تتوقف عن التوبة، ولا تدع اليأس يتسلل إلى قلبك. قد تخطئ اليوم وتتوب غدًا، وقد تسقط ألف مرة وتنهض ألف مرة، فالله لا يملّ من رحمتك ما دمت تعود إليه بقلبٍ صادق.

إن الشيطان يفرح حين تقع في الذنب، لكنه ييأس حين تتوب، لأن كل توبة تُمزّق حباله وتُضعف سلطانه. وكل استغفار يُعيد إلى قلبك صفاءه ونوره، ويغسل آثار الذنب عن روحك، حتى تعود نقية كما كانت. فالتوبة ليست دليل ضعف، بل هي أعظم مظاهر القوة، لأنها تُعلن انتصار الروح على الشهوة، والإيمان على الوسوسة.

قال الله تعالى:
 ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾
(البقرة: 222)

فانظر كيف جعل الله محبته للعبد مقرونةً بتوبته، وكأن كل مرة تعود فيها إليه تزداد قربًا منه.

وقال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الصحيح:

 «واللهِ، إنّ اللهَ لا يملُّ حتى تملّوا»
(رواه البخاري ومسلم)

أي أن الله سبحانه لا يملّ من قبول عبادته وذكره واستغفاره، ولا يغلق باب رحمته، بل يفتح لك الباب مرة بعد مرة، حتى لو مللت أنت أو ضعفت، فإن رحمته لا تملّ أبدًا.

كل توبة تُضعف قبضة الشيطان عليك، وتُعيد النور إلى قلبك، وتزيدك قربًا من الله. فهو لا يحتمل ضوء التوبة، لأنها نارٌ تُحرق كيانه الخفي الذي يتغذّى على الذنوب. فكلما ندمت، وكلما قلت “أستغفر الله”، احترق من داخله جزء من وسوسته، حتى يضمحلّ تمامًا.

فداوم على التوبة والاستغفار، واجعل لسانك رطبًا بذكر الله، فإن العبد ما دام يُجدد توبته، يبقى في حمايةٍ من الله، مطهّر القلب، مشرق الوجه، مرفوع القدر عند خالقه.

4. بالصبر والاحتساب

من أعظم ما يُضعف الشيطان ويُبطل مكره أن يُقابل الممسوس بلاءه بالصبر والاحتساب، لا باليأس والجزع. فحين يعلم العبد أن هذا الابتلاء ليس عبثًا، وإنما هو امتحان من الله ليمحّص إيمانه ويرفع درجته، يتبدّل الألم طمأنينة، وتتحول المعاناة إلى عبادةٍ خفيةٍ عظيمة الأجر.

إنّ الصبر في البلاء ليس مجرد تحمّل للوجع، بل هو إيمانٌ عمليٌّ بأنّ الله أرحم بك من نفسك، وأنّ ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك. وكل لحظةٍ من صبرك تُسجَّل في ميزان حسناتك، وتُطفئ نارًا من نيران الشيطان الذي يريد أن يراك ساخطًا متذمّرًا، لأن الجزع غذاؤه، والصبر سُمّه.

قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم):

 «ما يُصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حُزنٍ ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه»
(متفق عليه)

فانظر كيف أن كل ألمٍ مهما صغُر، حتى شوكةٍ تُصيبك، تُكفِّر عنك ذنوبك وتطهّرك. فكيف ببلاءٍ أعظم تمسّك به وساوس الشيطان؟ إنّ الله يجعل منه سببًا لرفعتك، ومطهّرًا لروحك من آثار الخطايا.

وقال الله تعالى:

 ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ • الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾
(البقرة: 155–156)

فالصابر هو من يعلم أن البلاء طريقٌ إلى القرب من الله، لا إلى الهلاك. وكلما صبر واحتسب، قُذف في قلبه نور الرضا، وسكينة لا يملكها إلا من عرف الله في شدّته.

اعلم أن الشيطان يُحب أن يراك ساخطًا وضعيفًا، لأن اليأس يفتح له باب السيطرة على مشاعرك وجسدك. لكنه حين يراك صابرًا، ساكن القلب، متوكّلًا على الله، يُدرك أنه لا سبيل له إليك، فيضعف وينكمش حتى يضمحلّ.

فالصبر ليس استسلامًا، بل هو موقف المؤمن القوي الذي يعلم أن ربّه يرى ويعلم، وأن لكل وجعٍ نهاية، ولكل دمعةٍ أجرًا. وكلما قلت: “اللهم لك الحمد على كل حال”، سقطت قيود من قيود الشيطان عن قلبك، وازداد وجهك نورًا وثباتًا.

فاصبر واحتسب، وقل لنفسك: إن معي ربّي سيهدين. فمهما طال البلاء، فالله وعد:

﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾
(الشرح: 6)

وما وعد الله حقّ، فمن صبر نال، ومن احتسب فاز، ومن وثق بربّه، خرج من محنته أنقى وأقرب إلى الله من أيّ وقتٍ مضى.

الخلاصة

إنَّ شيطان الحسد  هو كيان خفيّ يسكن الجسد ويتغلغل في أعماقه، يترصّد لحظات الضعف ليبثَّ فيها وساوسه، ويُغري بالمعاصي، ويزرع الفتور واليأس، حتى يُضعف الإيمان ويستولي على طاقة الإنسان ونوره الداخلي.
يُهاجم القلب أولاً، لأنّه يعلم أنّ من ملك القلب ملك الجسد كلّه، فيُحاول أن يُطفئ فيه حرارة الذكر، وأن يجعل العبد أسير شهوته وغفلته.

ومع ذلك، فإنَّ كيده مهما اشتدَّ ضعيفٌ أمام من يلتجئ إلى الله ويستعين به، كما قال تعالى:

 ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾
(النساء: 76)

فكلّما قاومت وساوسه، صغُر حجمه فيك وذابت قوّته.
وكلّما تبت إلى الله بصدق، احترق وجوده فيك وانكمش أثره.
وكلّما ذكرت الله، ضاق عليه مقامه في جسدك ونفسك حتى يفرّ خاسئًا مدحورًا.

لا تظنّ أنّ المعركة مع هذا العدو تقوم على القوّة الجسدية، بل على الثبات والإيمان. فكل ذكرٍ، وكل ركعةٍ، وكل توبةٍ، هي ضربة روحية تُضعف سلطانه وتكسر شوكته.
اثبت ولا تيأس، فالله معك ما دمت تقاوم لأجله. وإن سقطت فقم، وإن ضعفت فارجع، فـربّك لا يملّ من استقبالك، والشيطان لا يحتمل صدقك.
فما دمتَ تُجاهد وتعود إلى الله، فلن تكون له الغلبة أبدًا، لأنَّ النور الذي فيك أقوى من ظلامه، ورحمة الله أوسع من كل وساوسه.

تعليقات